• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أسباب تشوه الديمقراطية والسوق في العراق

حامد عبدالحسين الجبوري

أسباب تشوه الديمقراطية والسوق في العراق

إنّ استمرار الشمولية والاشتراكية لمدة طويلة في العراق ولّدا ثقافة اجتماعية شمولية واشتراكية لا تنسجم مع الديمقراطية والسوق فتشوه تطبيقهما.

يُعد القرن المُنصرم قرن انتصار الديمقراطيات والأسواق في العالم بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، بصرف النظر عن الشرعية التي يؤشرها البعض ويصفها بـ«الشرعيات الضالة»[1]، فبالنتيجة هو انتصار خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، في الربع الأخير من القرن العشرين وبالتحديد عام 1991، المناهض للديمقراطيات والأسواق ويتبنّى الشمولية السياسية والاشتراكية الاقتصادية.

العراق أحد البلدان التي كانت تتبنّى الشمولية السياسية والاشتراكية الاقتصادية القائمة على التخطيط المركزي والتي استمرت لمدة طويلة أكثر من أربعة عقود، من 1959 وحتى عام 2003 حين تخلّى عنهما بشكل قسري وذلك بفعل التدخل المباشر من قبل قائدة الديمقراطيات والأسواق في العالم.

وفي عام 2003 تبنى العراق النظام الجديد سياسياً واقتصادياً فبعد أن كان يتبع النظام الشمولي والاشتراكي أعلن تبنّيه الديمقراطية والسوق ولكن في الحقيقة لايزال تطبيقهما مشوهاً ولم يصل إلى مرحلة النضج لحد الآن وذلك لثلاثة أسباب رئيسة هي:

الأوّل: تأريخي - سياسي - اجتماعي

 أسهم ضعف النظام السياسي في تأريخ العراق بشكل عام والتأريخ المعاصر بشكل خاصّ وبالتحديد القرن السادس عشر وحتى بداية القرن العشرين، في تدخل خارجي متمثّل بالاحتلال العثماني والاحتلال البريطاني.

 ومع حصول العراق على استقلاله في عشرينيات القرن الماضي إلّا أنّه لم يحصل على الاستقرار السياسي حيث كانت الانقلابات السياسية تتفجر من هنا وهناك وصولاً لظهور الاستبداد الداخلي المتمثّل بالحكم الصدامي.

وكانت النتيجة لكلا الأمرين التدخل الخارجي والاستبداد الداخلي، أثر واضح ولايزال حاضراً في ثقافة المجتمع العراقي، والمتمثّل في ترسيخ ثقافة سلطة الحاكم على سلطة المحكوم وما على الأخير إلّا الطاعة والانصياع لما يريده الأوّل بدون مناقشة فضلاً عن المعارضة.

فالثقافة المتوارثة القائمة على الطاعة والانصياع لسلطة الحاكم الممتدة من الاحتلال العثماني 1534 ومروراً بالاحتلال البريطاني والانقلابات السياسية إلى نهاية الحكم الصدامي عام 2003 المستمدة شرعيته من قوّته وجبروته، كانت تتنافي مع الديمقراطية، التي حصل عليها المجتمع العراقي والتي بموجبها تكون سلطته أعلى من سلطة الحاكم ليس هذا فحسب بل إنّه مصدر السلطات وله الحقّ في متابعة ومراقبة ومحاسبة الحاكم حين قصوره عن أداء مهامه.

 ولذا اصطدمت الديمقراطية بالثقافة المتوارثة فالمجتمع لم يؤمن بأنّ سلطته أعلى من سلطة الحاكم وأنّه مصدر السلطات، فكان تطبيق الديمقراطية في العراق مشوهاً وغير ناضج.

الثاني: تأريخي - اقتصادي - اجتماعي

بالإضافة إلى الآثار الاقتصادية السلبية للتدخل الخارجي التأريخي، إنّ تبنّي النظام الاشتراكي القائم على التخطيط الاقتصادي، المرافق للحكم الصدامي ولمدة طويلة، كان له الأثر الواضح أيضاً في نشوء ثقافة اشتراكية تعتمد على الدولة في تسيير الجانب الاقتصادي للمجتمع العراقي.

حيث كانت عملية التخطيط الاقتصادي في بداية الأمر تقتصر على تحقيق بعض المشاريع المحدّدة حين تمّ تشكيل مجلس الإعمار عام 1950 – 1958، ثمّ اتّسعت شموليتها، بعد إن ألغت الدولة مجلس الإعمار وأنشأت مجلس التخطيط الاقتصادي ووزارة التخطيط لتقوم بإعداد الخطط الخمسية ومتابعتها وعرضها على المجلس التخطيطي، لتغطي كافة نواحي الحياة سواء أكانت اقتصادية أم اجتماعية وسواء كانت تخصّ القطاع الاشتراكي أو القطاع الخاصّ، ثمّ أخذت تشمل أبعاد جديدة كالبعد المكاني المتمثّل بوضع أهداف تتعلّق بالتخطيط الإقليمي والبُعد الزماني[2]، ولم ينتهِ العمل بها حتى عام 2003 وبشكل قسري.

فاعتماد النظام الاشتراكي القائم على التخطيط وشموله لمختلف نواحي الحياة، جعل المجتمع العراقي لا ينسجم مع النظام الجديد «اقتصاد السوق» القائم على آلية العرض والطلب، بشكل انسيابي وذلك لأنّ مدة تطبيق النظام الاشتراكي استمر لمدة ليست بالقليلة فتربّى المجتمع وتطبّع عليه فأصبحت ثقافته اشتراكية لا تنسجم مع نظام جديد قائم على الاعتماد الذاتي وليس على الدولة.

الثالث، خطأ عملية التحوّل

 وما عقّد من مسألة انسجام المجتمع العراقي مع الديمقراطية والسوق هو خطأ عملية التحوّل نحوهما، حيث يُمكن أن توصف بأنّها أكبر الأخطاء التي ارتكبت في العراق، من حيث الآلية ومن حيث الأولوية أو التناغم.

 فمن حيث الآلية، فقد تمّ تطبيق النظام الديمقراطي واقتصاد السوق بشكل مفاجئ ومزدوج في عام 2003 على أثر إسقاط النظام الشمولي سياسياً والاشتراكي اقتصادياً، حيث لم تتم تهيئة الظروف المناسبة لهذا التحوّل، وبالخصوص التحوّل الاجتماعي الملائم لهذا التحول الذي سيتم تناوله لاحقاً، هذا من جانب، كما لم يتم استخدام التحوّل التدريجي من جانب آخر.

 فالانتقال المفاجئ والمزدوج، أسهم في ضخامة حجم الآثار السلبية الناجمة عنه وتعقدها وزيادة عددها وسرعة ظهورها ولم يتم تفتيتها بل تم حقنها للمجتمع دفعة واحدة وخلال حقبة زمنية واحدة فلم يتحمّلها المجتمع، ممّا نتج عنه تعثر عملية التحوّل السياسي والاقتصادي، بخلاف لو كان الانتقال تدريجياً لكانت النتائج أفضل بكثير.

 أمّا من حيث الأولوية والتناغم، فلم يكُن التحوّل مدروس وفق سُلَّم الأولويات وأهما التحوّل الاجتماعي ثمّ التحوّل السياسي وأخيراً التحوّل الاقتصادي. كما لم يحصل التحوّل بشكل متناغم بين التحوّلات الثلاثة وبمسافات مُتقاربة.

التحوّل الاجتماعي

حيث لم يتم العمل على تفكيك ثقافة المجتمع السياسية والاقتصادية المتوارثة وبناء محلها ثقافة جديدة سياسية واقتصادية تتلاءم وتنسجم مع عملية التحوّل السياسي الديمقراطي والنظام الاقتصادي القائم على السوق، ولهذا أصبحت ثقافة المجتمع ثقافة مُتكررة ومُستنسخه من جيل لآخر، وبنفس الوقت أصبحت عقبة أمام عملية التحوّل لأنّها (ثقافة المجتمع) لا تنسجم مع عملية التحوّل السياسي والاقتصادي بفعل غياب التحوّل الاجتماعي.

التحوّل السياسي

فقد تم إجراء التحوّل السياسي بشكل «مفاجئ وصادم ولم يقتصر على إسقاط النظام الدكتاتوري وحسب بل تم إسقاط أغلب مؤسّسات الدولة»[3] بالتزامن مع غياب التحوّل الاجتماعي، ممّا أسهم في إرباك العمل السياسي وشيوع الفوضى السياسية وعدم إرساء مؤسّسات النظام السياسي الجديد بخُطى واثقة، فكان اضطراب الاستقرار هو السمة الطاغية، وهذا ما جعل الفرصة سانحة للتدخل الخارجي الدولي والإقليمي والذي لم يخلو من أثار سلبية.

 فكانت أبرز معالم الإرباك والفوضى وعدم إرساء المؤسّسات وأكثرها وضوحاً وتأثيراً، هي المحاصصة السياسية والصراع على السلطة، التي انعكست آثارها على الوضع الأمني، حتى احتل العراق المرتبة الأُولى من بين 190 دولة في مؤشر الإرهاب العالمي عام 2017، والمناخ الاستثماري حيث احتل المرتبة 168 من أصل 190 في مؤشر سهولة أداء الأعمال عام 2017 وغيرها بكثير.

التحوّل الاقتصادي

ففي ظل سياق الأولوية كان يفترض أن يتم التحوّل نحو الانتقال الاقتصادي بعد تحقّق الاستقرار السياسي على خلفية الانتقال التدريجي للتحوّل السياسي، وأن يكون التحوّل الاقتصادي تدريجياً، ولكن ما حصل في الواقع تم دمجه مع التحوّل السياسي، وهذا ما أربك الواقع الاقتصادي وتعثر التحوّل الاقتصادي حيث لاتزال الدولة تهيمن على النشاط الاقتصادي من خلال الثروة النفطية عبر قناة المالية العامّة، كما لاتزال تملك أكثر من 80% من الأراضي الزراعية، وتعاني من الفساد بشكل كبير حيث يحتل العراق المرتبة 169 من أصل 190 دولة في مؤشر مدركات الفساد العالمي الذي تصدره منظمة الشفافية العالمية.

التحوّل المتناغم

وأخيراً، على مستوى التحوّل المتناغم، فلم يحصل التحوّل المتناغم ذو المسافات المُتقاربة بين التحوّلات الثلاثة التي تم ذكرها آنفاً. نعم والحقّ يُقال، فقد حصل تناغم في التحوّل المزدوج بين التحوّل السياسي والتحوّل الاقتصادي ولكنّه لم يؤدِّي إلى نتائج مُثمرة بل كانت غير محمودة وذلك بسبب صدمة التحوّل المفاجئ من ناحية ولم يسبقه تحوّل اجتماعي من ناحية ثانية. ويمكن القول، لو كان تحوّل تناغمي تدريجي قد تكون نتائجه جيِّدة حتى لو لم يسبقه تحوّل اجتماعي، لأنّ تدريجية التحوّل المزدوج ستفضي إلى تفتيت الآثار وتوزيعها على مراحل زمنية مختلفة.

فتحالف الأسباب الثلاث آنفة الذكر، أدّى إلى تشوه تطبيق الديمقراطية والسوق في العراق، ولمعالجة هذه الأسباب سنحاول مستقبلاً كتابة مقال يهتم الحلول التي تسهم في تلافي أسباب التشوه من ناحية وإنضاج الديمقراطية والسوق بشكل أكبر من ناحية ثانية.


[1]- أمين معلوف، اختلال العالم، ص101-195.

[2]- جمال داود سلمان وطاهر فاضل حسون، التخطيط الاقتصادي، ص197.

[3]- عبدالوهاب حميد رشيد، التحوّل الديمقراطي في العراق المواريث التاريخية والأُسس الثقافية والمحددات الخارجية، مركز دراسات الوحدة العربية، ص165-168، ص208.

ارسال التعليق

Top